خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 22 من جمادى الأولى 1444هـ - الموافق 16 / 12 / 2022م
حُقُوقُ الْجَارِ
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران:102]، )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( [النساء:1]، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ مِنْ أَهَمِّ مَا يُمَيِّزُ الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ: الْمُحَافَظَةَ عَلَى وَحْدَةِ أَفْرَادِهِ وَتَمَاسُكِ آحَادِهِ؛ وَفْقَ شَرْعِ اللهِ وَحُدُودِهِ، وَالْحَثَّ عَلَى التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ عَلَاقَةٍ قَوِيَّةٍ تَجْمَعُهُمْ وَتُوَحِّدُ صُفُوفَهُمْ؛ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، قَالَ تَعَالَى: ] وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[ [المائدة:2]. قَالَ الإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (وَهُوَ أَمْرٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]. كَمَا أَنَّ مِنْ أَهَمِّ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْوَصَايَا الْمَرْعِيَّةِ الَّتِي وَصَّانَا بِهَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَحَثَّنَا عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْأَمْرَ بِحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْوَصِيَّةَ بِإِكْرَامِ الْجِيرَانِ؛ قَالَ تَعَالَى: ]وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا[ [النساء:36]. قَالَ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ الطَّبَرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى: أَيِ الْجَارِ ذِي الْقَرَابَةِ وَالرَّحِمِ مِنْكَ، وَالْجَارِ الْجُنُبِ: هُوَ الْجَارُ الْبَعيدُ الَّذِي لَا قَرَابَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ: هُوَ رَفيقُ الرَّجُلِ فِي سَفَرِهِ). وَالْجِيرَانُ فِي الْحُقُوقِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ؛ فَأَعْلَاهُمْ مَنْ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ وَهُوَ الْجَارُ الْمُسْلِمُ الْقَرِيبُ؛ فَلَهُ حَقُّ الْإِسْلَامِ، وَحَقُّ الْقَرَابَةِ، وَحَقُّ الْجِوَارِ، يَلِيهِ مَنْ لَهُ حَقَّانِ؛ وَهُوَ الْجَارُ الْمُسْلِمُ؛ فَلَهُ حَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الْجِوَارِ، ثُمَّ مَنْ لَهُ حَقُّ الْجِيرَةِ فَقَطْ وَهُوَ الْجَارُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ.
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْجِيرَانِ، وَبَذْلَ الْمَعْرُوفِ لَهُمْ، وَالْقِيَامَ بِحُقُوقِهِمْ؛ لَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَ حَدٍّ، وَلَا يَخْتَصُّ بِفِئَةٍ دُونَ أُخْرَى، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى صَدِيقٍ أَوْ قَرِيبٍ، وَلَا يَرْتَبِطُ بِمَذْهَبٍ أَوْ دِيَانَةٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ جَاوَرَ الْمُسْلِمَ فِي دَارٍ، أَوْ عَمَلٍ أَوْ مَقْعَدِ دِرَاسَةٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ مَتْجَرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعُدُّهُ الْعُرْفُ جِوَارًا، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْجَارُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، مُحْسِنًا أَوْ مُسِيئًا، مُوَاطِنًا أَوْ مُقِيمًا؛ قَالَ مُجَاهِدٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: كُنْتُ عِنْدَ
عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَغُلَامٌ لَهُ يَسْلُخُ شَاةً، فَقَالَ: (يَا غُلَامُ، إِذَا سَلَخْتَ فَابْدَأْ بِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ)، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَقَالَ لَهُ: كَمْ تَقُولُ هَذَا! فَقَالَ: (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يُوصِينَا بِالْجَارِ حَتَّى خَشِينَا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) [رَوَاهَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: (وَاسْمُ الْجَارِ يَشْمَلُ: الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ، وَالْعَابِدَ وَالْفَاسِقَ، وَالصَّدِيقَ وَالْعَدُوَّ، وَالْغَرِيبَ وَالْبَلَدِيَّ، وَالنَّافِعَ وَالضَّارَّ، وَالْقَرِيبَ وَالْأَجْنَبِيَّ، وَالْأَقْرَبَ دَارًا وَالْأَبْعَدَ).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
وَلَقَدْ جَاءَتِ الآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ مُؤَكِّدَةً حُقُوقَ الْجِيرَانِ؛ حَيْثُ يَجْمَعُهَا وَصْفُ التَّعَامُلِ بِالْإِحْسَانِ، وَبَذْلُ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ تَقْوِيَةُ عَلَاقَةِ الْجَارِ بِجَارِهِ وَتَعْزِيزُ التَّرَابُطِ بَيْنَهُمَا؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْجِيرَانِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «هِيَ فِي الْجَنَّةِ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ] (وَالْأَثْوَارُ مِنَ الْأَقِطِ هِيَ الْقِطَعُ الصَّغِيرَةُ مِنَ اللَّبَنِ الْمُجَفَّفِ). وَلَا يَكْتَمِلُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ - أَوْ قَالَ: لِأَخِيهِ - مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّ حُقُوقَ الْجِيرَانِ -بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ- ثَابِتَةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]، وَالْإِكْرَامُ هُوَ الْإِجْلَالُ وَالتَّقْدِيرُ وَالِاحْتِرَامُ وَالتَّوْقِيرُ.
وَصُوَرُ الْإِكْرَامِ بَيْنَ الْجِيرَانِ كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، وَخِصَالُ الْبِرِّ بَيْنَهُمْ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَفَرِّعَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ: إِجَابَةُ دَعْوَتِهِ، وَعِيَادَتُهُ عِنْدَ مَرَضِهِ، وَمُسَاعَدَتُهُ فِي أَوْقَاتِ حَاجَتِهِ، وَسَدُّ خَلَّتِهِ، وَإِرْشَادُهُ لِمَا فِيهِ نَفْعُهُ وَمَصْلَحَتُهُ، وَإِخْلَاصُ النَّصِيحَةِ لَهُ، وَبَذْلُ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِهِ، وَاتِّبَاعُ جَنَازَتِهِ.
وَمِنْ صُوَرِ إِكْرَامِ الْجِيرَانِ: إِهْدَاءُ الطَّعَامِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]، وَفِرْسِنُ الشَّاةِ: هُوَ حَافِرُهَا.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: (أَيْ لَا تَحْقِرَنَّ أَنْ تُهْدِيَ إِلَى جَارَتِهَا شَيْئًا وَلَوْ أَنَّهَا تُهْدِي مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْغَالِبِ.(
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. وَذَلِكَ أَنَّ الْجَارَ فِي الْغَالِبِ يَطَّلِعُ عَلَى مَا يَدْخُلُ بَيْتَ جِيرَانِهِ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ تَصِلُهُ رَائِحَةُ طَبْخِ الطَّعَامِ؛ فَحَثَّ الشَّرْعُ عَلَى إِهْدَاءِ الطَّعَامِ بَيْنَ الْجِيرَانِ زَرْعًا لِلْمَحَبَّةِ وَمَنْعًا لِانْكِسَارِ نَفْسِ الْجَارِ الَّذِي قَدْ لَا يَجِدُ مِثْلَ هَذَا الطَّعَامِ.
وَكُلَّمَا زَادَ قُرْبُ الْجَارِ مِنْ جَارِهِ مَنْزِلًا زَادَ تَأَكُّدُ حَقِّهِ بِالرِّعَايَةِ وَالْإِحْسَانِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: «إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْأَمِينُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ –عِبَادَ اللهِ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى؛ فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
إِذَا كَانَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْجِيرَانِ طَاعَةً لِلَّهِ، وَسَبَبًا لِلْفَوْزِ بِجَنَّةِ الرَّحْمَنِ؛ فَإِنَّ إِيذَاءَ الْجَارِ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ مِنَ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ الْعَظِيمَةِ، وَالْمُحَرَّمَاتِ الْقَبَائِحِ الذَّمِيمَةِ، وَهُوَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ النَّارِ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. وَالْبَوَائِقُ: الشُّرُورُ.
بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ يَتَسَبَّبُ بِأَذِيَّةِ جِيرَانِهِ؛ فَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ» قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
فَيَحْرُمُ إِيذَاءُ الْجَارِ بِأَيِّ شَكْلٍ مِنْ أَشْكَالِ الْإِيذَاءِ، سَوَاءٌ بِاللِّسَانِ كَغَيْبَتِهِ، أَوْ إِسْمَاعِهِ مَا يَسُوءُهُ، أَوْ إِيذَائِهِ بِالْأَصْوَاتِ الْمُزْعِجَةِ لَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ النَّوْمِ وَالرَّاحَةِ، أَوِ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِ فِي مَكَانِ وُقُوفِ سَيَّارَتِهِ أَوْ مَدْخَلِ بَيْتِهِ، أَوِ النَّظَرِ إِلَى دَاخِلِ بَيْتِهِ دُونَ إِذْنٍ، أَوْ إِشَاعَةِ أَسْرَارِهِ عِنْدَ الآخَرِينَ. وَمِنْ أَعْظَمِ صُوَرِ الْإِيذَاءِ: خِيَانَةُ الْجَارِ لِجَارِهِ فِي عِرْضِهِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصِيَامِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
كَمَا يَنْبَغِي عَلَى مَنِ ابْتُلِيَ بِجَارِ سُوءٍ: أَنْ يَصْبِرَ عَلَيْهِ، وَيَتَحَمَّلَ أَذَاهُ وَيَحْتَسِبَ أَجْرَهُ عِنْدَ خَالِقِهِ وَمَوْلَاهُ؛ يَقُولُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (لَيْسَ حُسْنُ الْجِوَارِ كَفَّ الْأَذَى، وَلَكِنَّ حُسْنَ الْجِوَارِ الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى).
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الْأَطْهَارِ وَصَحْبِهِ الْأَبْرَارِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْـمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْـمُشْرِكِينَ، وَاغْفِرِ اللَّهُمَّ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِلْمُسْلِمِينَ؛ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَهُمَا فِي رِضَاكَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً؛ دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْـدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَـمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة